يـــــا قــــدس الكاتب : متنوع |
ما كـــلُّ مَنْ نطقوا الحـــروفَ أبانوا *** فلقد يَذوبُ بما يقولُ لسانُ
يسمو بها صدقُ الشعور إلى الذُّرا *** ويزُفُّ عِطْرَ حروفها الوجدانُ
لغةٌ تَرَقْرَقَ في النفوس جمالُها *** وتألَّقتْ بجلالها الأَذهانُ
يجري بها شعري إليكـــــــم مثلما *** يجري إلى المتفضِّل العِرْفانُ
لغةُ الوفاء، ومَنْ يجيد حـروفَها *** إلا الخبير الحاذق الفنَّانُ؟
أرسلتُها شعراً يُحاط بمـــوكبٍ *** من لهفتي، وتزفُّه الألحانُ
ويزفُّه صدقُ الشعـــــــور وإِنَّمــــا *** بالصدق يرفع نفسَه الإِنسانُ
أرسلتُ شعري والسَّفينةُ لم تزلْ *** في البحر، حار بأمرها الرُّبَّانُ
والقدس أرملةٌ يلفِّعها الأسى *** وتُميت بهجةَ قلبها الأحزانُ
شلاَّلُ أَدْمُعِها على دفَقاتــــه *** ثار البخار فغامت الأَجفانُ
حسناءُ صبَّحها العدوُّ بمدفـــعٍ *** تَهوي على طلقاته الأركانُ
أَدْمَى مَحاجرها الرَّصاص ولم تزلْ *** شمَّاءَ ضاق بصبرها العُدوانُ
لْقَى إليها السَّامريُّ بعجله *** وبذاتِ أَنواطٍ زَهَا الشَّيْطَانُ
نَسي المكابرُ أنَّ عِجْلَ ضلالِـــه *** سيذوب حين َتَمُّسه النيرانُ
حسناءُ داهمَها الشِّتاءُ ودارُها *** مهدومةٌ، ورضيعُها عُريانُ
وضَجيج غاراتِ العدوِّ يَزيدهـــــا *** فَزَعاً تَضَاعف عنده الَخَفقانُ
بالأمسِ ودَّعها ابنُها وحَليلُهـــا *** وابنُ اْختها وصديقُه حسَّانُ
واليوم صبَّحتِ المدافعُ حَيَّها *** بلهيبها، فتفرَّق الجيرانُ
بــــــــــاتت بلا زوجٍ ولا إِبنٍ ولا *** جارٍ يَصون جوارَها ويُصَانُ
يـا ويحَهـــــــا مَلَكتْ كنوزاً جَمَّة *** وتَبيت يعصر قلبَها الِحرْمانُ
تَستطعم الجارَ الفقيرَ عشاءَها *** ومتى سيُطعم غيرَه الُجوْعَانُ
صارتْ محطَّمةَ الرَّجاء وإنَّما *** برجائه يتقوَّت الإِنسانُ
يا قدسُ يا حسناءُ طال فراقُنـا *** وتلاعبتْ بقلوبنا الأَشجانُ
من أين نأتي، والحواجزُ بيننا: *** ضَعْفٌ وفُرْقَةُ أُمَّةٍ وهَوانُ؟
من أين نأتي، والعدوُّ بخيله *** وبرَجْلهِ، متحفِّزٌ يَقْظَانُ؟
ويَدُ العُروبةِ رَجْفَةٌ ممدودةٌ *** للمعتدي وإشارةٌ وبَنانُ؟
ودُعاةُ كلِّ تقُّدمٍ قد أصبحوا *** متأخرين، ثيابُهم أَدْرَانُ
متحدِّثون يُثَرْثِرُون أشدُّهم *** وعياً صريعٌ للهوى حَيْرانُ
رفعوا شعارَ تقدُّمٍ، ودليلُهم *** لِينينُ أو مِيشيلُ أو كاهانُ
ومن التقدُّم ما يكون تخلُّفاً *** لمَّا يكون شعارَه العصيانُ
أين الذين تلثَّموا بوعودهم *** أين الذين تودَّدوا وأَلانوا؟
لما تزاحمت الحوائجُ أصبحوا *** كرؤى السَّراب تضمَّها القيعانُ
كرؤى السَّرابِ، فما يؤمِّل تائهٌ *** منها، وماذا يطلب الظمآنُ؟
يا قدس، وانتفض الخليلُ وغَزَّةٌ *** والضِّفتان وتاقت الجولانُ
وتلفَّت الأقصى، وفي نظراته *** أَلَمٌ وفي ساحاته غَلَيانُ
يا قُدس، وانبهر النِّداءُ ولم يزلْ *** للجرح فيها جَذْوةٌ ودُخانُ
يا قدس، وانكسرتْ على أهدابها *** نَظَراتُها وتراخت الأَجفانُ
يا قُدْسُ، وانحسر اللِّثام فلاحَ لي *** قمرٌ يدنِّس وجهَه استيطانُ
ورأيتُ طوفانَ الأسى يجتاحُها *** ولقد يكون من الأسى الطوفانُ
كادت تفارق مَنْ تحبُّ ويختفي *** عن ناظريها العطف والتَّحنانُ
لولا نَسائمُ من عطاءِ أحبَّةٍ *** رسموا الوفاءَ ببذلهم وأعانوا
سَعِدَتْ بما بذلوا، وفوقَ لسانها *** نَبَتَ الدُّعاءُ وأَوْرَقَ الشُّكرانُ
لكأنني بالقدس تسأل نفسَها *** من أين هذا الهاطلُ الَهتَّانُ؟
من أين هذا البذلُ، ما هذا النَّدى *** يَهمي عليَّ، ومَنْ هُم الأَعوانُ؟
هذا سؤال القدس وهي جريحةٌ *** تشكو، فكيف نُجيب يا سَلْمانُ؟
ستقول، أو سأقول، ما هذا الندى *** إلاَّ عطاءٌ ساقه المَنَّانُ
هذا النَّدى، بَذْلُ الذين قلوبُهم *** بوفائها وحنانها تَزْدَانُ
أبناءُ هذي الأرض فيها أَشرقتْ *** حِقَبُ الزمان، وأُنزِل القرآنُ
صنعوا وشاح المجد من إِيمانهم *** نعم الوشاحُ ونِعْمَتِ الأَلوانُ
وتشرَّف التاريخ حين سَمَتْ به *** أخبارُهم، وتوالت الأَزمانُ
في أرضنا للناس أكبرُ شاهدٍ *** دينٌ ودنيا، نعمةٌ وأَمانُ
هي دوحةُ ضَمَّ الحجازُ جذورَها *** ومن الرياض امتدَّت الأَغصانُ
الأصل مكةُ، والمهاجَرُ طَيْبةٌ *** والقدسُ رَوْضُ عَراقةٍ فَيْنَانُ
شيمُ العروبة تلتقي بعقيدةٍ *** فيفيض منها البَذْلُ والإحسانُ
للقدس عُمْقٌ في مشاعر أرضنا *** شهدتْ به الآكامُ والكُثْبانُ
شهدت به آثارُ هاجرَ حينما *** أصغتْ لصوت رضيعها الوُديانُ
شهدت به البطحاء وهي ترى الثرى *** يهتزُّ حتى سالت الُحْلجانُ
ودعاءُ إبراهيمَ ينشر عطره *** في الخافقين، وقلبُه اطمئنان
هذي الوشائج بين مهبط وحينا *** والمسجد الأقصى هي العنوانُ
هو قِبلةٌ أُولى لأمتنا التي *** خُتمت بدين نبيِّها الأديانُ
أوَ لَمْ يقل عبدالعزيز وقد رأى *** كيف الْتقى الأحبار والرُّهبانُ
وأقام بلْفُورُ الهياكلَ كلَّها *** للغاصبين وزمجر البُركان
وتنمَّر الباغي وفي أعماقه *** حقدٌ، له في صدره هَيجَانُ
وتقاطرتْ من كلِّ صَوْبٍ أنْفُسٌ *** منها يفوح البَغْيُ والطغيانُ
وفدوا إلى القدس الشريف، عارهم *** طَرْدُ الأصيل لتخلوَ الأوطانُ
وفد اليهود أمامهم أحقادهــــم *** ووراءهم تتحفَّرُ الصُّلبان
أوَ لم يقل عبدالعزيز، وذهنُه *** متوقدٌ، ولرأيه رُجْحَانُ
وحُسام توحيد الجزيرة لم يزلْ *** رَطْباً، يفوح بمسكه الميدانُ
في حينها نَفضَ الغُبارَ وسجَّلَتْ *** عَزَماتِه الدَّهناءُ والصُّمَّانُ
أوَ لم يَقُلْ، وهو الخبيرُ وإِنما *** بالخبرةِ العُظْمى يقوم كيانُُ:
مُدُّوا يدَ البَذْلِ الصحيحةَ وادعموا *** شعبَ الإِباءَ فإنهم فُرْسَانُ
شَعْبٌ، فلسطينُ العزيزةُ أَنبتتْ *** فيه الإباءَ فلم يُصبْه هَوانُ
شَعْبٌ إذا ذُكر الفداءُ بَدا له *** عَزْمٌ ورأيٌ ثاقبٌ وسنانُ
شعبٌ إذا اشتدَّتْ عليه مُصيبةٌ *** فالخاسرانِ اليأسُ والُخذلاُن
لا تُخرجوهم من مَكامنِ أرضهم *** فخروجُهم من أرضهم خُسران
هي حكمةٌ بدويَّة ما أدركتْ *** أَبعادَها في حينها الأَذهانُ
يا قُدْسُ لا تَأْسَي ففي أجفاننا *** ظلُّ الحبيبِ، وفي القلوبِ جِنانُ
مَنْ يخدم الحرمين يأَنَفُ أنْ يرى *** أقصاكِ في صَلَفِ اليَهودِ يُهانُ
يا قُدسُ صبراً فانتصاركِ قادمٌ *** واللِّصُّ يا بَلَدَ الفداءِ جَبَانُ
حَجَرُ الصغير رسالةٌ نُقِلَتْ على *** ثغر الشُّموخ فأصغت الأكوانُ
ياقدسُ، وانبثق الضياء وغرَّدتْ *** أَطيارُها وتأنَّقَ البستانُ
يا قدس، والتفتتْ إِليَّ وأقسمتْ *** وبربنا لا تحنَثُ الأَيمانُ
واللّهِ لن يجتازَ بي بحرَ الأسى *** إلاَّ قلوبٌ زادُها القرآنُ