يوم احترق بنار "السبت الأسود" في القاهرة جهد 160 عالماً طوال 17 سنة
كتاب "وصف مصر" الذي احترقت نسخته الأصلية بقنابل المولوتوف التي اشتعل
معها مقر المجمع العلمي أمس "السبت الأسود" في القاهرة، هو أكثر بكثير من
كتاب، بل هو دائرة معارف وموسوعة عمل عليها 160 عالماً فرنسياً طوال 17 سنة
بلا توقف في باريس قبل 200 عام.
الكتاب احتضنته العاصمة الفرنسية في
منتصف 2009 في معرض أقاموه خصيصاً لمناسبة مرور 200 عام على صدوره، وهو من
800 صفحة تضم 3 آلاف رسم وصورة مع بيانات ودراسات وأبحاث تشمل أوجه الحياة
قديمها وحديثها في مصر، وقام بإعداده مهندسون وباحثون وكيماويون وعلماء
متنوعو الاختصاصات ومستشرقون فرنسيون رافقوا نابليون حين حملته على مصر.
وفي تلك الحملة طلب منهم نابليون بونابرت في عام 1798 أن يقوموا بأبحاث
ودراسات عن كل ما يتعلق بأحوال مصر وشؤونها، ففعلوا وقاموا بما كان نادراً
وصعباً ذلك الوقت على أجانب مثلهم، ومنه أول خريطة لمصر، وهي التي منع
نابليون نشرها في أول طبعة صدرت من الموسوعة لأنه خشي "أن يستغلها الأعداء
في الهجوم على قوات الحملة الفرنسية في مصر".
وحين عادوا إلى فرنسا بدأوا في وضع ما دوّنوه وتبويبه، جامعين كل وثيقة وكل
رسم وورقة احتوت على أي ملاحظة ومعلومة تم تدوينها أثناء الحملة التي
استمرت 3 سنوات، ثم قاموا بفحصها والتأكد من صحة ما فيها ومطابقتها مع
مصادر متنوعة للتأكد أكثر من صحتها، وبعدها قاموا بتحويل ما جمعوه موحداً
ومصنفاً الى لجنة شكلها نابليون من 11 عالماً.
عمل على مدى 17 عاماً واستمر أعضاء اللجنة في العمل طوال
17 عاماً بلا توقف في فرز الموضوعات ومراجعتها وتوحيدها وتنسيقها، مع
استمرار عمل العلماء معهم أيضاً في التمحيص والتنسيق وإضافة الضروري وإلغاء
ما لم يكن متأكدين منهم من معلومات، وخلالها ظهرت في 1809 أولى مجلدات
"وصف مصر" الشهير.
وبعدها تلتها مجلدات أخرى على مراحل، حتى ظهرت كاملة في 1826 بطبعة جديدة
من 37 مجلداً، أحدها ارتفاعه 1،13 متر بعرض 81 سنتيمتراً، وحملت اسم
Description de l'Égypte أو "وصف مصر" الذي قام بترجمته إلى العربية الأديب
والمترجم المصري الراحل، زهير الشايب، الذي تمر العام المقبل 30 عاماً على
وفاته في 1982 وهو بعمر 47 سنة.
والموسوعة هي مجموعة أبحاث ومذكرات ودراسات واكتشافات معززة بخرائط ورسوم
وبيانات قام بها رجال الحملة الفرنسية "وجعلوها من الدقة في الوصف وشمول
النظرة والموضوعية في التناول إلى حد أصجت معه من أفضل الكتب التي ظهرت عن
مصر وتخطيطها في العصر الحديث"، بحسب المكتوب عنها.
وتنقسم موسوعة "وصف مصر" بحسب موضوعاتها إلى قسمين: الأبحاث، وهي من 26
مجلداً، واللوحات والرسوم والخرائط والبيانات في 11 مجلداً، وهما يحتويان
معاً على معظم ما له علاقة بالتاريخ المصري المعروف حتى رحيل الحملة.
مصر داخل موسوعة ويذكرون عن الموسوعة ما يمكن تلخصيه
بأنه صورة من الورق مصغرة عن مصر، ففيها سجّل علماء الحملة الفرنسية
أبحاثهم وتقاريرهم وملاحظاتهم ومشاهداتهم التي شملت وصف المباني والحرف
والصناعات والمواطنين وزراعاتهم وفئاتهم.
وعززوا ما دوّنوه بلوحات ورسوم لحيوانات مصر وطيورها وأسماكها وحشراتها
ونباتاتها ومعادنها وأحجارها، ووضعوا الخرائط الجغرافية عن ريفها ومدنها،
حتى وعما فيها من أحياء ومديريات وسواحل وصحارى وجبال، مع الترع والبحيرات
وغيره مما تشتمل عليه عادة مجلدات الأبحاث والتاريخ الطبيعي.
هذه الموسوعة التي يصفونها بأنها "درة" التراث المصري الحديث نسبياً، هي ما
أعلن أمس الدكتور محمد الشرنوبي، أمين عام المجمع العلمي المصري، أنها
احترقت مع 192 ألف كتاب ودورية ومخطوطة أتت عليها نار المولوتوف.
وقال الشرنوبي لوسائل إعلام مصرية عدة أمس إنه ما أن سمع بالحريق حتى أسرع
للاطمئنان، وحين وصل وجد النار وقد انتشرت في معظم أنحاء المقر، وقال:
"فوجئت بوجود متظاهرين يرشقون سيارات الإطفاء بالحجارة ليمنعوها من إطفاء
الحريق".